لا يختلف اثنان أن تطبيق الجودة أصبح إحدى ركائز المؤسسات الناجحة اليوم وهي المرجع العالمي الموحد الذي يعتمد عليه في إثبات درجة الموثوقية بالمنتج والأداء بالخدمة ، وشهدت السنوات الأخيرة في الوطن العربي انتقال كبيرا في تطبيق الجودة ومعايير التميز المؤسسي مدفوعا بعدة عوامل،أما توجهات الدول والخطط الاستراتيجية المنبثقة من رؤيتها ، و الرغبة بالحصول على جوائز التميز التي أصبحت معياراً إرشادياً ودليلاً يخبرنا من هي المؤسسات المتميزة التي فازت بالجائزة وأيضا رفع مستوى الأداء بالخدمات الحكومية والسعي الى تجويد الأداء.
في ثورة هذا التغيير كنت أحد الذين تأثروا بالجودة خلال السنوات الماضية، حيث انصب تركيزي نحو الاحتراف والتميز في هذا المجال وصعود السلم خطوة بخطوة وصولاً إلى ممارسة العمل الاستشاري في مجال الجودة وإدارة المخاطر، ومدفوعاً بطموح كبير في إحداث تغيير جذري في ثقافة التميز لتكون أساس عمل المؤسسة ، وليس فقط متطلباً ضمن عشرات المتطلبات الداخلية ، أو هدفا يتم تحقيقه والانتقال لأهداف آخرى .
على مدى تلك السنوات لاحظت أن تطبيق الجودة يبدأ مدفوعاً بالحماس من فريق العمل بالمؤسسة الذي يضع الخطط لتجويد الأداء انطلاقا من تطبيق مواصفة الآيزو 9001 وهو أمر طبيعي فهي أم المواصفات وأفضل البدايات وهي البنية التحتية المناسبة لنظام إدارة الجودة وتحسين نظام الإدارة وفعالية القرارات، ولكن دائماً ما تكون الخطة المرسومة تنتهي بهدف نهائي محدد وهو ” الحصول على الشهادة “ وهو أيضا هدف مشروع لتلك المرحلة ،ولكنه أيضا أحد أكبر الأخطاء القاتلة للجودة على مستوى الإستدامة، والتي من شأنها ان تعرقل الغرض من تطبيق الجودة، والسؤال هنا لماذا؟
يقول ويليام فوستر ” الجودة ليست مجرد هدف ، بل عادة تنتج من اعتبارات العقل والروح المتجددة ” وتأكد أن التعامل مع الجودة كمشروع – له بداية ونهاية – ينتهي بالحصول على الشهادة قد أفقد المؤسسة فكر الاستدامة والتخطيط طويل الامد ، فإدماج الجودة بالتخطيط الاستراتيجي هو أمر بغاية الأهمية عبر أهداف الجودة الاستراتيجية وذلك لأن الإجادة تتجاوز حدود الحصول على الشهادة،بل ايضا من خلال تصور أين ستكون الجودة بعد 5 سنوات ؟ وفي ظل غياب هذا التوجه وعدم إدراك لاهمية استشراف المستقبل تجد أن المؤسسة بأكملها وفريق الجودة ينصب جل تركيزهم على الحاضر وهو كيف نحصل على الشهادة وتحقيق المتطلبات ، وتتناسى كليا كيف تحقق أهداف الجودة وإستدامتها ! والنتيجة النهائية ونتائج هذا الخطاء القاتل تظهر بعد الحصول على الشهادة .
عند ذلك تفقد الجودة صفة الاستمرارية وكأن تلك الرحلة انتهت والإنجاز تحقق فيجد فريق الجودة نفسه تائهاً بلا خطة وهدف ويدور في ذات الفُلك مع سؤال متداول، ماذا يجب ان نفعل الآن ، هنا تحصل فجوة ما بعد الشهادة إلى حين موعد التدقيق الخارجي القادم وتكون النتيجة فقدان الموظفين ثقتهم بالنظام الذي لم يحقق آي تحسين على مستوى المؤسسة سوى ضغط المتطلبات والتوثيق ومجرد إجراء شكلي يهدف إلى استدامة الشهادة والحفاظ عليها وتبدأ القيادة بالاعتقاد من أن تطبيق الجودة مكلف وبلا نتائج ويستنزف خزينة المؤسسة ولا توجد خطة لفلسفة الجودة سوى تلك الشهادة وتجديدها سنويا .
حينها تكون عاشت الشهادة، وماتت الجودة في المؤسسة.